رسالة إلى الموت ،،



تحية طيبة وبعد ،

أنا فتاة لم أتجاوز بعد العشرينات من عمري ، مُقبلة على الحياة بصمت شديد . صمت قد بث القلق في نفس والداي ، لم تعجبني منذ طفولتي الحياة التي أوقعني القدر بها، لم أكن راضية عن ما رأيته . عندما كنت في الخامسة من عمري تقريباً صافحتني دبابة ، منحني جندي حرب ثمرة مسمومة و قد أصريت على تناولها رغم أن والدي قد خطفها مني وقتها . إن كان يهمك فالثمرة نسمّيها " رمان " ، رأيت أمي تبكي ، رأيتني دون وطن، أنام على الأرصفة مع عائلتي ، وحين يبتسم بوجهي الفجر أبكي بشدة ، كنت أخاف من شكل السماء فجراً ولونها الأزرق بالتدريج يحمرّ ، كنت في طفولتي فقيرة تائهة . كنت أرتدي فستان قرينتي لأن والدتي في وقت الحرب لم تكن تملك المال . كانت قرينتي تقول لي مشيرة إلى ما أرتديه " هذا فستاني " وكنت أتأملها ساكنة منحرجة وكأني أقول لها " آسفة لأني سطوت على أملاكك " . كنت مازلت أذكر ذاك الفستان كان يحمل عبارة ( أنا أحب ماما ) بالإنجليزية .
سنوات مرّت كبرت بها كثيراً ، التحقت بالمدرسة لم أكن أهتم للناس . للفتيات و الفتيان ، لم أكن أهتم بماذا يفكرون تجاهي ، كنت لا أملك أصدقاء ، صامتة جداً ... جداَ ، كنت متفوقة في دراستي ، لأني أملك فراغاً كبيراً ، لأني لا أملك أصدقاء .
أنا ، جرّبت أن أوقع بفتاتين كاذبتين ، هي تقول شيئاً و أخرى تقول شيئاً مختلف تماماً . كلاهما تمثل البراءة لكني لم أفهم مصلحتهما ، فأوقعت بهما ... أنا التي أقصر ، أصغر منهن ، أهدأ ، أخجل منهن . جعلتهن ينكسن رؤوسهن أمامي .
أنا ، جرّبت أن أعيد بناء علاقة صداقة كانت ستحرمني من صديقتي لكني لم أفكر سوى بمصلحتهما ، فحاولت جاهدة تلطيف الأجواء و إحياء إتفاق جيد ، لكن لم يحدث .
واثقة جداً من نفسي ، لكني أفهم حدودي ولا أتجاوزها للغرور والكبر ، أعرف جيداً بأني لا أحتاج الاحتكاك بالآخرين لأكوّن نفسي ، لكنهم يفعلون ، فأحبهم و أقدرهم و أحرص عليهم أكثر من ذاتي ، أفكر بأمورهم كثيراً و أتدارسها و إن كان ما يضرهم فإني أحذرهم . أبكي كثيراً من أجلهم .
هكذا، أكون غير مفهومة أمام الآخرين .
تخرجت من كلية لم أكن أرغب في دخولها أساساً من تخصص لم أتقبله إطلاقاً ، و لم أدرس ما كنت أتمنى وهو الأدب الإنجليزي ، بدلاً عن ذلك تقطرت في كأس التجارة و الإدارة . وعندما انتظرت الوظيفة التي كنت أتمناها رفضتني هي و لم تأتيني أو حتى تزورني ، بقيت أنتظرها طويلاً حتى تعهدت بأن أفتح بابي لأي طارق باب ، وبالفعل طرقت بابي تلك الوظيفة البعيدة عن مكان سكني أو بمعنى أصح منعزلة ، هناك بين الطبقة الراقية ، بين ذوو الدماء الزرقاء ، هناك حيث لا يلمسون الموظفون قضبات الأبواب بل هي تفتح لهم تلقائياً ، هناك حيث يأكلون أكثر مما يعملون ، هناك حيث صوت قرقعة الأحذية اللامعة على الرخام اللامع الذي يعكس الصور كالمرايا ، هناك حيث العرش مازال جديداً لأن الملك غالباً ما يكون خارج البلاد ، هناك حيث رفضوا صمتي كلياً و شقوا شفاهي إجباراً لتظهر حروفي ، هناك حيث أحد المدراء يكره مناداتي بإسمي لأنه كإسم زوجته ، حيث لا شمس لأنها تؤذي أبصارهم ، ولا هواء لأنه يفسد تسريح شعورهم ، حيث السكرتير هو ذاته من يرتب طاولة الاجتماعات و يمسح الغبار عنها . هو ذاته من يصنع لهم " عصير جزر " و يملأ استمارات أوراق الفيزا لعائلاتهم الكريمة لأنها ستقضي إجازتها في ربوع سنغافورة بينما يتصل عليك وهو يستلقي في الشمس على الرمل الذهبي الناعم و يصرخ بك أنه يرغب في إنجاز العمل بأسرع وقت.

في حياتي رفضت شعور الضعف لكنه أصر على الالتصاق بي ، وكأني مسمار كلما قفز خارج الحائط أعادوه وضربوه على رأسه ، تمثلت كاستشارية اجتماعية ، أنصت لجميع المشاكل و أعالجها ، أنصت لأبعد مدى يمكن تخيله ، أنصت حتى الشك بكوني عدم منصتة أو سارحة . لكني لا أكون كذلك بل أكون متابعة جداً لمن هو يحدثني . أرفض عجزي عن تقديم المساعدة و أشعر بالفشل إن لم أقدمها لمن احتاجها مني.
منذ طفولتي يتهمني الكثير بالكذب ، كلما قلت شيئاً لا أحد يصدقني حتى أثبت ذلك ، لكني كنت أقول دائما في نفسي " إن كنت مؤمنة بصدقي فلماذا أحتاج لإثبات ذلك ، كنت أعذرهم لأن لا أحد يعرف ما في نفس الآخر.
منذ طفولتي يوصفني الكثير بالبرود ، لأنهم لا يفرقون بين الهدوء و البرود ، كنت قد كتبت رسالة من قبل بشأن ذلك و أنا في السادسة عشر من عمري.
في وقت مبكر ، وصفتني أختي الكبيرة بالمعقّدة . وكنت أبكي وأنقهر بمجرد أن أسمعها أمامي تقول ذلك ، حتى صارحتها و كنت فعلا بريئة من تلك الكلمة ، لكني أبوح بكل ما أفهمه و أسأل عنه ، ربما اعتقدت بأني أعاند ليس إلا . فاعتذرت مني و تعهدت بعدم لفظها مجدداً وهاهي مازالت بعد سنوات عدة تفي بوعدها لي .
إذا لنقل بأني زجاجة تحتفظ بماء مالح لكنها لا تبح لأحد . هم يقولون إنه مجرد ماء . وحدي أنا فقط من أستطعم طعمه المالح . حبسوني في غرفة المظلومين مبكراً مع وصفهم لي بالكاذبة و الباردة . أنا كذلك جنيت على نفسي لأني لم أدافع عنها ، وحين بدأت في السنوات الأخيرة بالدفاع قالوا بأني قد " تغيرت للأسوأ " .
لا أحب حين أبكي أن أقول إني بكيت ، لا أحب أن يعلم أحدا عن ضعفي ، يكفيهم كوارثهم . ربما لن يؤثر بهم ألمي لكني سأزعج وقتهم .
عندما كنت صغيرة أو بالأحرى صبية . تحرّش بي أحدهم . تقيأت كرهي له ورغبتي في قتله وتمزيق أحشاؤه تكبر بي كلما امتدت سنوات إقامتي على الأرض ، لذا كرهت أن يمسّني أحد ، مازلت أتمنى ارتكاب جريمة إن كانت التفنن بقتله . كحرقه مثلاً أو ثقب جسده بدبابيس صغيره أو كسر رقبته .
انظر يا سيدي ، لست ملاكاَ كاملاً ، فأنا أتوق للجريمة . أتوق لقتل نفس حرّة .
أحببت ممثلاً كبيراّ بالسن شكله مضحك للغاية ، لكني همت به كثيراً ، لدرجة بأني حين أجده في لقاء تلفزيوني ألتصق بالشاشة وحين انتهاء البرنامج أبكي بحرقة وألم . كحاجتي إليه ، كرغبتي الشديدة في الجري إلى الأستديو ولقاؤه ، لكني لا أستطيع وليس بيدي حيلة سوى البكاء .

أحتاج سيدي زيارتك الأخيرة لي، أجهل سبب غيابك عني ، رغم إني أجد نفسي تستحقك أكثر من الغير ، أكثر مثلاُ من ابنة عمتي التي عذبتها مع المرض أشهراً حتى لاقيتها ، أكثر من ابن خالتي التي زرته فجأة على شكل حريق أحاله جمراً أسود فجعنا جميعاً . كان يمكن أن تزورني أنا وليس هو .

أنا غريبة ياسيدي حتى عن نفسي ، أحيانا أحني جذعي على صوت " الضمير العربي " أمد ذراعي للسماء و ألوي رقبتي و أدور ،و في حضرة نحيب ضحايا الحرب أطيّر شعري . و أحيانا أبكي و أتألم على نور يتيم يعجز أن يظهر نفسه من زجاج النافذة إجباراً في منتصف الليل.
أحيانا أقهقه وقت الحزن و أحيانا أغتسل بدمع حارق أمام مشاهد فيلم كوميدي ، فكرت يوما أن أتبنى طفلا فرفضوا أهلي دخوله في منزلنا ، فقررت أن أكفل يتيم .. لكني لم أفعل حتى هذه اللحظة ، فكرت أن أتصدق بمال بسيط في أحد الأيام إلى أحد اللجان لكني لم أفعل ومازلت أرفض الذهاب بنفسي لأني في كل مرة أجد بها أحد الأخوان الذي يشبهونهم يتركون شؤونهم و يتحدثون بشؤوني ، يسردون لي قصص من التاريخ و الصحابة و القوافل القديمة وهكذا . و أنا رغبتي أن أمنح بعض المال و أتابع عملي.
من سخرية القدر أن أكون كارهة لزميل ما في العمل و لا أحب أن تلتقي عيني بعيناه لأنه فعلا دون سابق إنذار أجهل لم يشعرني بالاشمئزاز حين أسمع صوته أو أنظر لملامحه . أشعر بالقرف الشديد و ذاته يتوفى ، تزوره أنت لأقوم أنا بتنسيق إعلان حملة تبرعات باسم الزميل و أقودها بنفسي ...

أنا خطأ في هذه الحياة يا سيدي أرجوك أن تلتفت لأمري وتعيد النظر.
انتظرت الراحة و آمنت بالألوان لكني لم أجد سوى لون واحد لا يتغير إلا كتدريج فقط. حاولت أن أحضرك مجبراً إلي عبر تناولي نوع من الحبوب . قد نسيت كم عددها لكني أذكر بأني كنت أهذي وقت تناولي إياها حتى ذهبت صباحاُ للعيادة ، لتؤكد لي دكتورتي بأني تناولت حبوباً زيادة عن حاجتي وتركت معدتي تعاني طوال الليل، و عاندت ولم تخضع لي ، لماذا تعذبني هكذا ؟ ، أنا أنام في الأسود كل ليلة . أعوم في الملح كل لحظة ، وعنيدة ولست مؤمنة بالأحداث ، لا أصدق ما يقوله نيتشه و باولو كويلو . أركنهم جانباً و أصدق أفكاري . السخرية سبيلي للضحك ، أقلد أصوات الأطفال وطريقة حديثهم ، أقلد اللهجات ، أحب أن أقول " لأنو هيك " حين لا يوجد شئ أتحدث به ، و أن أقول " بدّيش احكي مع أي غبي .. بيكفّي " حين أكون متضايقة و أتعمد عدم خدمتهم ... أن أقول " إكسلنت ... ثانكيو سير " حين يشتمني أحدهم . وأن أقول بصوت طفلة " ولك يخرب زوئك شو مابتفهم " حين أحدث طفل لا يسمعني ، و أن أقول " ترى الكرسي بيدزني على الأرض " حين أرغب في الراحة قليلاً .
أنا لست كاملة البياض ، أكون نصابة أحياناً ، نمامة أحياناً ، ممثلة ، صامتة ، كاتمة حقائق ، متنصتة ..

ألا يكفيك سبباُ لأن تزورني و نتعرف على بعضنا ؟ . أتمنى أن تفكر بالأمر .

ولك مني جل الاحترام والتقدير،
تحياتي الخالصة .

Make a Free Website with Yola.