[ وشم ]





" حاولت أن أبقى ساكنة قدر الإمكان ، حتى قتلت نفسي " عبارة وجدت في دفتر ملاحظات صغير يرقد في حقيبة يد تلك الغافيه في سيارتها ..



لم أشأ أن أبقى مكتوفة اليدين حين وجدت تلك السيارة المركونة على جانب الطريق قرب حديقتي المعهودة التي ما ألبث أن أتردد عليها كلما اعتصرتني كف القدر واختنقت من رائحة الكون القذرة، لم أكن أعلم بأنها تمثل طريق الخلاص لآخرون غيري. كنت أحاول أن ألتقط أنفاسي حين غادرت سيارتي مطلقة خطاي على العشب البارد الأخضر، كنت أتحاشى الاغتسال بالدمع ، كلما هطلت دمعه مسحتها بسرعه ، حتى وجدتني أبتعد عن سيارتي كثيراً ، وجدت هناك بين الأشجار في الزاوية ، شئ أحمر ... لفت نظري ، عدت أفكر بحالي و أحوالي مغيَبة عن أفكاري حقيقة ذاك اللون الأحمر بعبارة " ربما تكون لأحد العاملين " ، عدت إلى وطني المجهول أبحث و أهتم . أشهق مرة و أخرى أزفر بقوة ، ليتني عدت طفلة لاتكترث سوى لدميتها ولا تعرف شيئاً سوى جدائلها الصغيرة ، ليتني أموت وأبث الراحة في جميع قلوب معارفي و أصحابي ، متى أموت ؟ ألا يكفي القدر تلاعباً بي؟ ألم تنتهي اللعبة بعد ؟ ، في كل مرة أكره نفسي ومطالبها وعنادها الذي لاينتهي ، والآخرون الذين ماأزال لا أفهمهم ولا أستوعب رغباتهم وطلاسمهم، حتى ظلي بات يتلاشى و يبحث عنهم،كلما طال مكوثي على وجه هذه الدنيا كلما تشكلت غريبة ، حتى أصل إلى يوم لا أفهم تلك الحروف التي يلفظونها أمامي ، عنادي شديد و قوتهم أكبر مني وصبري قليل ، وأنا بين هذا وذاك أتمزق ببطئ ، أتلاشى كاحتراق جن كافر حين يَقرأ عليه القرآن المقدس .
لفت نظري مجدداً حفيف الأشجار الصادر عن حركتها ، تلك التي تلتف حول ذاك الشئ الأحمر، فالتفت بأسى. وجدتها تتحرك مجدداً بقوة ثم تتوقف، حاولت أن أسرق النظر من بعيد ، لم يتضح شيئاً ، نهضت من مقعدي و اقتربت بهدوء و أنا أكح . لا أحد ، ... اقتربت أكثر ، فوجدتها سيارة حمراء صغيرة ، ورأس يستند من الداخل على زجاج السيارة الخاص بمقعد السائق ، غريب ! ربما يغفو أحدهم هنا .. ، قتلني فضولي أكثر رغم نبضات قلبي التي بدوت أشك أنها واضحة للعيان من شدتها ، اقتربت كالمارقة من السيارة و نظرت من الزجاج الأمامي و إذا بها فتاة تغطي رأسها بوشاح أسود ، يستند رأسها على مقود السيارة . أجهل لماذا اندفعت إليها بسرعه ودون تردد طرقت على زجاج النافذة علها تصحو من غفوتها ، لكنها لم تتحرك. لم أقوم بأي خطوة سوى الاتصال بالإنقاذ . طالبوني بالبقاء حيث أكون حتى تصل النجدة، وبالفعل تربعت على أحد الأرصفة وانتظرت قدوم تلك السيارة التي ستنعش تلك الفتاة أو .... تنعشني ...
اندفع رجال الشرطة حولي و الإسعاف ، أسئلة كثيرة أحاطت بي ، " ماسبب زيارتي للحديقة ؟ " ، " منذ متى و أنا هنا ؟ " ، " كيف وجدتها ؟ " ، " هل لاحظت أمرا غريباً ؟ " ، " هل سمعت صوتاً ؟ " ، " أين سيارتي ؟ و هل هي بإسمي ؟ " ، " أين أعمل ؟ " ..... أسئلة دقيقة كثيرة تناثرت علي تنتظر إجابة ... يهمهم كثيرا أن أجيب و لا يهمهم إنقاذها ؟ .. لماذا يحيطون بي أنا ؟ لماذا النظرات تأسرني أنا لا هي ؟ .. أنا لا أشكو من شئ .. ، أم أنهم كشفوا المتأزمة الحقيقية في هذا المكان ؟ ، ينقلونها إلى سيارة الإسعاف . نظرت إليها من بعيد ، كانت أطول مني تقريبا ذات جسد رفيع ، يبدو أنها أقدمت على الانتحار وذلك واضح من رسغها المغموس بالدم ، مسعف يرفع ذراعها النازفة اليمنى إلى الأعلى و إثنان ينقلانها إلى سرير الإسعاف ، شهقت بقوة " يا إلهي .. انتحرت ؟"




أغمضت عيني بقوة .. وضعت كفي على عيني مانعتها من المشاهدة و بدأت أحاول تنظيم شهقاتي و نبضات قلبي .. اقترب مني أحد الضباط المتواجدين في المكان " هل أنتِ بخير ؟ ، تحتاجين مساعدة ؟ " .. رفعت رأسي استوعبت إني تأخرت على المنزل " لا .. شكراً .. أحتاج أن أعود للمنزل إن لم يكن هناك أي سؤال آخر " .. أشار لأحدهم " أوصل الأخت لسيارتها " .. نهضت و الآخر يمسك ذراعي بحذر قائلة " شكرا " .. ، ببطئ أسير نحو سيارتي يساعدني ذاك الضابط ، حين وصلت إليها سألني " هل أنتِ متأكدة يمكنكِ القيادة ؟ " ، أدرت محرك السيارة " نعم ... شكرا جزيلا " .. " أمر آخر لو سمحتي .. هل يمكنني رؤية رخصة القيادة الخاصة بك ؟ " تناولت حقيبتي ، أخرجتها من محفظتي ، تأملها قليلا ، سجل بعض المعلومات بورقة ثم أعادها مجددا قائلا " أعتذر .. لكنها أجراءات لابد منها " .. " لا بأس بذلك " ..



عدت في طريقي الذي حلقت عنه بعيدا عن التركيز في مساره أفكر ماذا شاهدت و بماذا فاجأتني تلك الحديقة الأسطورية ، كيف يحدث هذا ؟ وهل كان حقيقيا أم خيال ؟ ، زفرت كثيرا حتى شعرت بدوار ، ما أن عدت للبيت حتى رميت بنفسي على أقرب وسادة وغبت عن الوعي.
صباح اليوم التالي ، رن هاتفي النقال ليطلبني ذاك الضابط إلى مركز الشرطة ليقوم بتلك الإجراءات الخاصة باستيفاء وقائع الحادثه .. ، أي حادثه ؟ لم يكن هناك موضوع . لم يكن هناك حدث .. لقد حضر الجميع في نهاية العرض، حتى أنا كنت أول المتأخرين، كل ما في الأمر أن روح حاولت الهرب من الأرض ، لماذا وكيف ؟ لا أعلم .. ، أنا لا أمثل شيئا و لم أفيد بشيئا و لم أقم بتأثير معين . في مركز الشرطة ، ضللت ما يقارب نصف ساعة أقف قرب باب التحقيق ، أتأمل مرة ساعتي و مرة أجيب على هاتفي النقال ومرة أسأل أحدهم عن دوري، حتى دخلت ، فقال لي الضابط بهدوء .. " أهلا آنسة راخيل يبدو أنك من ذوات الذهن المنشغل دائما ... " .. تأملته بصمت ... تابع " حسناً .. كيف أنتِ اليوم ؟ هل مازالت الصدمة تنعكس عليك ؟ " .. سألته " أي صدمة ؟ " ..
ابتسم " أي صدمة ؟ ... اكتشافك أن الفتاة صاحبة السيارة الحمراء قد انتحرت .. " .. طأطأت برأسي .. تابع بابتسامة " على العموم .. مازالت على قيد الحياة وذلك بفضلك طبعاً .. لكنها تحتاج ملاحظة نفسية وجسدية مكثفة " ... تمتمت " الحمدلله على كل حال " . سكت يقلب الأوراق .. سألت " و مالمطلوب مني إذا مادامت المنتحرة على قيد الحياة ؟ " دفع الورقة أمامي .. " توقيعك . " .... تسائلت " توقيعي ؟ " .. " نعم .. شهادتك على واقعة الانتحار .. " اندهشت " لكنها لم تنتحر .. أقصد مازالت على قيد الحياة " . ابتسم هازءاً " لكنها أقدمت على ذلك ويجب أن تسجل هذه القضيه في ملفها و المركز " ... قلت " لتسجل .. و أنا مادوري في القضية ؟ " ضحك بقوة فقال " ومم أنتِ خائفة ؟ مجرد توقيع لا يضر ... ثم إنها شهادة فقط " ، " شهادة فقط ؟ " ... " نعم " .. " ومالذيي يثبت لي بأنه لن يتم استدعائي مجددا كلما أقدمت تلك اللطيفة على الانتحار ؟ " ... " هل لديك شك بأنها ستقوم بذلك ؟ " تأملته مطولا فقلت " لا شك و لاهم يحزنون .. لا أريد أن يسجل أمر آخر بالتحقيق .. كل ما في الأمر أنها خواطر ... أين أوقع ؟ " ضحك فقال " كنت وقعتِ من الصبح ياماما .. " ...!!

وغادرت المركز بتذمر، ساخطة على تطفلي الذي قادني إلى حكاية لا أتمناها و أرغب في أن أكون أحد أبطالها.


.

مساءا ، كنت مسافرة بعيدا مع كتابة قصتي التي تعمقت كثيرا في أحداثها، اعتدت على أن أترك جهازي النقال على الوضع الصامت حين أبدأ الكتابة و أطفئ الأنوار في الغرفة معتمدة فقط على أنوار جهازالكمبيوتر الخاص بي. حكاية تبادل بها أبطالها الشر والخير معاً، تعيش في قلب كل إنسان وبشري، حكاية استعمرتني قبل أن ألد كلماتها، بنيت لها مستقبلا رائعا و مازلت أحاول تربيتها كما أتمنى لو كنت في عهدي عندما كنت مجرد أوراق بيضاء على إحدى الطاولات ، قبل أن يلطخني إثم الحبر وذنب الكتابة. مابين فترة وأخرى ، أريح عيناي من الكتابة و أغمضها مصغية لما تحمله أغاني الهيدفون من معاني وموسيقى.، بعد أن أنتهي من الكتابه أكون قد غطيت في سبات عميق أجد فيه نتاج التحام مشاعري و حواسي.
في الصباح الباكر من اليوم التالي، تلقيت اتصالا من المستشفى التي وضعت بها تلك التي أقدمت على الانتحار، يطلبون مني الحضور إلى المستشفى حيث طلبت مقابلتي، أخبرتهم بأني لن أستطع الحضور إلا مساءاً حيث إني صباحاً سأكون منشغله في الترتيب لأحد الاجتماعات، لم أجد الأمر صعوبه من مقابلتها باعتبار أن المقابلة لن تدوم سوى دقائق تشكرني بها على المساعدة و من ثم استئذاني و تنتهي الحكاية ، لذا استأذنت من والدتي لزيارتي " لإحدى الصديقات " كما قلت .. رغم إنها تحرص على أن تعرف من هي تلك الصديقة لكنها هذه المرة ربما نست أن تسألني أو ربما أنقذني القدر ولم يشأ أن أتمادى في الكذب أكثر، غادرت مساءاً إلي تلك المستشفى وإلى غرفتها . طرقت الباب ، قامت الممرضة مشكورة بتعريفي عليها و تعريفها علي. قابلتني بنظرات لم أفهمها لكنها لم تكن مبتسمة أو حتى ممتنة ، تركتنا الممرضة و غادرت بابتسامة بينما انتصبت واقفة أمامها ... مرت بيننا لحظات صمت ... أو ربما حداد على أقدارنا التي توفيت في باطنها أرواحنا الشعثاء ... ملامحنا الجامدة ونظراتنا التي قمنا بتبادلها كانت خارج الوقت و محيط الكون. كانت ذات شعر قصير مموج تلف وشاحها الأسود ذاته على رقبتها ، نحيله جداً . ملامحها منهكه و بشرتها صفراء شاحبة، استوعبت مرور الوقت ، سألتها بهدوء وأنا أتأمل الغرفة " كيف أنتِ الآن ؟ .. " ... تأملتني ولم تشأ أن تبعد نظراتها عيني " كنت بخير " .. سألتها و أنا مازلت أتأمل الغرفة و تلك النافذة التي تطل على الشارع العام و واجهة المستشفى " و الآن ؟ " ...
" لست كذلك .. " ... طأطأت برأسي " أتمنى لك الخير والتوفيق و حياة أفضل " ... صرخت فجأة " أنتِ السبب !! " رفعت رأسي مندهشة " أنا ؟ " ... " نعم .. أنتِ .. متواطئة مع القدر ؟ لماذا تنقذيني ؟ هل بيننا علاقة ما ؟ " ... " لا .. لكننـــ ... " ... صرخت تقاطعني " إذا لماذا تنقذيني ؟؟ لماذا تعيديني إلى الجحيم بعدما أطلقت خطاي للجنة ؟ ما أنتِ شيطان ؟؟ " ... اندهشت وأنا أضع كفي على شفاهي متفاجأة .. قلت هازئة " آسفة .. لم أعتقد إني حين أنقذتك من انتحار يؤدي للجحيم فإني تشكلت شيطان أرعب إيمانك .." ، مازالت تصرخ " ليس انتحار .. هروب هو من جحيمكم هذا ...!! " .. قلت لها و أنا أشير بيدي " جحيمنا هذا لا يساوي ذرة من ذرات الجحيم الأبدي .. أيتها الهاربة " ، " هل تنقذيني لتسمعيني حكمك أيتها الفيلسوفة ؟ " .. " هه هل قلتِ أنقذك ؟ .. وهل أحضرتني هنا لتصرخي بوجهي ؟ " . " أنا أطالب بحقي " ، " حقك بماذا ؟ لا أحد سرق موتك منك ، إن كنتِ قد انتحرت مرة يمكنك القيام بذلك مرات. لن أمنعك لا أنا ولا غيري .. لست سوى شئ وقع أمام موتك في الوقت الخاطئ ، انتحري الآن لا أحد يكترث ... " وأدرت ظهري مغادرة .. صرخت " ليست كل الفرص تعود مجدداً إن لم يتم استغلالها جيداً .. " ، التفت إليها " استغليها جيداً إذا " ... صرخت بقهر وهي تذرف دمعها " اوووووه!! " .. اقتربت منها وأنا أقول " مالذي يمكنني أن عمله حتى أكفر عن ذنبي ؟ أقتلك ؟ أم أصلي لموتك ؟ " شدتني من ذراعي هامسة " أنتي ما تحسين ..! " ، افتعلت عدم الاكتراث وقلت " يارب تموتين .. زين ؟ " ... بردة فعل لم تكن متوقعة أبداً .. أفلتت ذراعي وصفعتني بقوة ، نظرت إليها .. ابتعدت عنها بضع خطوات وقلت " من آيات الزمن .. مساعدة لم نطلبها و دعاء لم نصلّيه " ... ثم غادرت متحاملة على تلك الدموع التي انسابت مجرد تجاوزي لباب غرفتها ، لم أبك لأنها صفعتني .. لطالما آمنت بأن تلك الأضرار الجسدية التي تحدث لي هي درس من دروس القدر لي، مثلما ضربتني والدتي على زندي يوماً ضربت فيه أختي الصغري ، فصرخت بوجهي و دفعتني على الجدار فتركت تلك الضربة بقعة زرقاء على زندي اختفت مع مرور الوقت ، بكيت .. لأني وجدت قلبي ينبض بها . وجدتها أنا ، وكأنها تكشفني وتمثل دوري بصراحة ، اصرارها على مغادرة الحياة جعلني خرساء أمامها، وكأنها أنا ... وكأنها أنا ....
Make a Free Website with Yola.