ذات البركة

 
لسبب ما كنت أهاب تلك العجوز التي بدأت أتردد على بيتها في كل ليلة أجدني أتألم ... أجدني أدمع .. فانهار ..
كنت أرتعب من نظراتها و قلادتها الطويلة التي تغطي صدرها الحنون .. و شالها الطويل الاسود الذي يحجب نصف ملامحها .. كنت أرتعش بمجرد ذكر اسمها من بين الزميلات و الزملاء حيث كانت تزورنا كثيرا لتنصحنا و تتبادل الحوار معنا كـ " ملتهمين للورق .. يقطر من شفاهنا الحبر " كما كانت تردد علينا ....
و انا كنت من بينهم أتحاشى الحديث معها و التقرب منها .. و الان .. اجدني الوحيدة التي تزورها أسبوعيا في بيتها سراً .. أبكي بحضنها و تكتفي هي باحتضاني مره و مداعبه خصل شعري باناملها المنحوته بالتجاعيد مرة أخرى ....
مازلت أذكر اليوم الاول الذي ظهر صوتي الهادئ امامها و هي تسبّح بمسبحتها المقدسة الطويلة غير مواجهة لي . و قفت عند بابها منهارة .. قلت و زلزال يستعمرني من أطرافي و حدودي حتى قلبي .. : ( أريد أن أقول شيئا خالتي " ذات البركة " ! ) ...اقتربت بهدوء و جلست على ركبتي بعيدا ..تابعت : ( عندما أكون ممتلئة بالألم لحد الغثيان دون سبب هل أكون تافهة ؟ .. )، استرسلت بهدوء و مازالت تعد بترتيل خفيف خرز المسبحة : ( أجهل كيف سمحت لنفسي بذلك .فأنا أنثى لطالما ابتعدَت عن كل شئ و أغلقت بابها خلفها ) ..! ابتَسَمَت دون أن تنظر إلي بخفة بينما أحسست بأني قصدتها . فوجهت كلامي و جعلت روحي تنطلق باسترسال و حريه و كأنها بابتسامتها شرعت لي أبواب الانصات ...

احترقت شمعتي خالتي ..
و تقطّر جسدها مصهورا
أرفض أن يعلم أحد بعلتي
و لا أحد يشكي لأحد مجبورا
والله إن روحي تستنجد بقلبي
و قلبي لم يعد صوته مسموعا
أتألم لحظات كثيرة وعدة ليالي
و جسدي بات بالوجع موصوما
خالتي خذلت نفسي بنفسي ..
و أجهل إن كنت ظالما أو مظلوما
ليس لي من بعد الرب غيرك
يا ذات البركة ..
فالحنان عندكِ مملوءا ...
ذات يوم صافحته و صافحني ..
فوجدت قلبي من بعده مهموما
كنت أجهل تعلقه بي
كنت أجبر شعري على أن يكون مأسورا
حين يعود أقبّل عبير نسماته
و حين يختفي يكون الصمت مصلوبا
مختلفا خالتي عن جميع أقرانه
يتنقل بأرضه نبيّا مصونا
أخاف معاتبته و إن عاتبني
يبقى حديثه بالخشوع مغمورا ..
مالذي يحدث لي ساعديني ..
أهوا خيال ؟ أم عشق ؟ ..
أم جنون ؟ ...
أم قدر بات عذابه لي مكتوبا ؟!


أشارت لي بيدها أن أقترب .. فاحتضنت رأسي و هي تفترش الارض .. قبّلت كفها تلك التي داعبت شعري و دفنت رأسي بحضنها ... غمرني حنانها .. أحسست بأني سكِرت عطفها و دفئها ... أجهشت بكاءا قهرا ... اختناقا ...

آآهٍ لو تعلمين ..
كم من الليالي بحثت عن حضن يدفيني
و رب العباد ..
إني ماوجدت غير جسدكِ يحتويني ..
مرهقة أنا مني و إليكِ خذيني ..
أرهقتني صورته التي تتراءى لي ..
في كل زوايا ربيعي ..
آهٍ لو تصدقين ..
إني أجده معي الان في حضنك الذي يحميني ...
يشاطرني حتى خوف حاولت التغلب عليه ..
هربا من وجعي و أنيني ..
نار في روحي التهبت أرجوكِ اطفئيها
و إن وجدتني محترقه ..
معه ادفنيني ..

في كل مرة يخيل لي أني أراه ..
أو حتى أغني و أرفع صوتي عله يسمعني ..
في كل مرة يخيل لي بأني
أتمرن على قول " أحبك "
حتى تبدو سهله أمامه ..
حتى تنقذني ..
في كل مرة أحاول أن أكون قربه ..
فقط قربه ..
حتى يتسنى لقلبي الانهيار على الارض برضاي
فيغرق بنبعه ..


خالتي أتعلمين ؟
بأني أخجل مني حين أشتاق إليه ؟
بأني و كأني أحاول نسيان معصيه من معاصي الرب العظيم ؟
و أحيانا كثيره أمقت نفسي حين أستحضره أمامي ..
أستحضر كلماته ..
أشعر بأنه ليس لي ..
و لن يكون ..
و ليس لي الحق بأن أتعدى حدودي ..
لمجرد أنه جنون ..
و لاستحضاري له طقوس
و لاحتراق مشاعري خشوع
ماذا أفعل بمشاعر تاهت ..
بطريق مخيف كنت أرتعب منه و لا أزال
أمارس الخضوع ؟
و يسألوني " لم كل هذا الالم ؟ "
أجيبهم " موجوعه " ..
لا يصدقوني .. خالتي لا يصدقون ..
و أنا ..
لا أعلم إن كنت أجني عليه ..
أم أجني على روحي ..
ما أعلمه ..
هو أنه احتضار ..
فهناك صوت أنين ..
و هناك أشتم رائحة احتراق ...



أجابتني ...ذات البركة :
حدّثتني فقالت كاشفه عن كلماتها النديه:

كشفتي لي عن حزنكِ المأسور
فأي مارد ذاك الذي يزعج حديقتك الوردية ؟
شكوتي لي ...
فما هي رغبتكِ التي تطلبينها من عالمكِ الموعود ؟
دعيني ألملم عنكِ شتات روحك المرهقه ..
اللامعه العاديه ..
فخوفك يا ابنتي عاصر تاريخك المجنون
راقص كلماتك في جميع زواياك الهذيانيه ...
ارتاحي قليلا بحضني ..
ارتاحي ... اغتسلي ببركة حناني قليلا
ارتاحي ...
شرّعي بوابة صمتكِ المسدود ..
إياكِ أن تخافي مني ..
فلستِ أسيرة تلك القلاع الحصينة ... ذات الاسوار العاليه
و لستُ أنا سجاناً يأسر الضعاف في عقله
في قانونه الحقود ...


يا ابنتي ..
لطفولتكِ رائحة تفوح بين ثناياك الشجيّه
و الالم عليكِ مكتوب
فلا تنهاري بين كفي الدنيا ... و كوني قويّه
فليس هنالك أقوى من حزن المعبود ...
اعزفي خطاكِ كالأميرة .. كالراقصة الباريسية ..
و اجعلي الاخرين عليكِ شهود ..
قد انهكتي قلبكِ يا ابنتي ..
و اعتصرته بعلقم مسموم ..
و تحولت دموعك إلى أساور .. خلاخل .. وعقود
حدّثي رب العباد .. ناجيه كمالمحتاجِ
كالمحروم ....
كالفقير التائه المفقود ...
فبريق مقلتاكِ كشفكِ أمام كل حي و مقبور ..
ابنتي ..
حبيبتي ..
لا شئ يساوي اختفاء صوتك وسط طغاة .. من أجل اغفاءة بعوض
و هذه الدنيا لا تساوي جناح بعوض .. أمام الرب الغفور ..


- مشهد خاص من الحديقة السرية -



.

Make a Free Website with Yola.