" راخيل " هي أنا ...-1-


طفلة اسمها " راخيل " جدائلها الكستنائية الصغيرة أصدق من كذبة نور الشمس في يومي
هذا، " راخيل " دائما معي حين أفقد وعيي، أرها تمشط شعري بأناملها الصغيره بصمت ،
أو حتى تضم كفي بين كفيها وتفركهما برقة لتدفئتي.
كنت أرمي بجسدي مقلوباً على سريري بينما يتدلّى رأسي خارجه ، تجلس قرب مسمعي هي
وتمشط شعري . تقول ( صلِّ معي .. هيا انهضي لنبدأ الصلاة حتى إن متنا نكون معاً في الجنة)
صلاتي أنا تختلف عن صلاتها. هي إن رغبت في الصلاة، تضم كفيها وترفعهما للسماء بامتداد
عالي .. تغمض عينيها بشدة وتشهق بقوة ...
بينما أنا أرتدي البياض بهدوء ، وينهكني الإعياء فأتكوم على سجادتي كجنين و أغفو حتى
يُفتَح باب غرفتي وتندفع والدتي نحوي مندهشة من منظري ..

 



" راخيل " هي أنا ... - 2 -


لم أمُت في حياتي ميتة كهذه، حين تحوّل سريري فجأة إلى بركة من الدمع الساخن، لتسعني
وتغرقني بجسدها. وتعود والدتي لتفاجئني برغبتها بمصاحبتي إلى أحد مراكز التسوق. كنت
أحدثها و أخبئ رأسي تحت لحافي، رفضت متعللة بنومي العميق، لكنها أصرّت و أصرّت ، و
تشبّثت أنا بدوري بلحافي رافضة النهوض، كيف أنهض وساقاي تنغمسان بطين جهنمي يسكنه
شيطان مايلبث أن يجرّني نحو الأعمق؟ كيف أريها ملامحي وقد سالت وضاعت بين رطوبة الدمع؟ .. ،

سحبتني خارج سريري مجبرة وغادرت غرفتي قائلة بأنها ستجدني في السيارة
بعد عشر دقائق، نهضت بتثاقل أغسل عار الضعف عن ملامحي التي صبغت بالأحمر، ارتديت
بلوزتي القطنية بلون جسد الغيم الرمادي في الخارج، بينما أتناول ذاك الجاكيت . فتحت والدتي
الباب تتأكد من نهوضي ، وحين تأكدت أغلقته مرفقة قولها " جميل .. جميل هيا اسرعي "!
قفزتُ منزعجة بصمت، كطفلة سرقوا منها دميتها، رميت الجاكيت بعيداً وأنا أذرف دمعي بقهر
منقوع بحزن.
أقسم إنها تعرف شيئاً، أقسم إنها اكتشفت آثار الدمع على وجنتي، أحيانا تزعجني مهارات
الأمهات والآباء في الإحساس بحزنك، ربما يجهلون السبب تماماً ، لكنهم يكتفون بمعرفة
شعورك، وأمي من الأمهات التي تشعر مباشرة بالضرر الذي يحدث لأبناؤها ، ربما هي من
النوع الذي لايتدخل كثيراً إن كنا لا نرغب بذلك ، لكنها تكتفي ببذل ما في وسعها لتجد الراحة
على ملامحنا، أذكر جيداً كيف ترددت ذاك اليوم حين هاتفتني في عملي بشأن إخباري بوفاة
عمي .. اتصلت قائلة بهدوء حين أجبتها ...
" إذا تقدرين .. ردي البيت الحين "
" ليش ؟ "
" بس ... بروح بيت عمج "
" زين .. أكلم المدير .. بس ليش؟"
" ...... "
" يما .. تسمعيني ؟ "
" بس ... توفى "
" ......"
" ريال كبير بعد ... الله يرحمه "
" ..... "
" ديري بالج ... "
" ...... "
" شوفي إذا تقدرين تطلعين ... باي باي .. "

أذكر جيداً كيف تحولت الألوان أمامي إلى أبيض و أسود، كيف احتبست نفسي أمام المغسلة
أبكي، تعلم والدتي جيداً بأن حالة الضعف ستعود لي مادمت قد علمت بأني خسرت أحد. وكنت
أعلم بخوفها من عودتي وحدي في حالة غضب وحزن واندهاش في ذاك الطريق. حيث كان
مكان عملي آنذاك في منطقة تجارية منعزلة ، وكما ذرفت دمعي هناك في مواقف السيارات
ذرفته هنا بينما أجلس على سريري وأبكي بقهر، سمعتها تصرخ تناديني، زفرت بقوة رافضة
الخروج ومغادرة غرفتي .. أيعقل أن تجدوا فتاة راشدة ترتدي ملابسها وهي تبكي بهمس
قائلة " أوووف .. مابي .. مابي " ..؟ نعم .. أنا ..

 



"راخيل" هي أنا ... -3-



نهضت و أنا ألف وشاحي الأسود بيأس وغادرت إلى السيارة.
في السيارة كنت أستند على الباب بإنهاك وعيناي تراقبان سيلان دمع المطر وانزلاقه عبر
الزجاج. تتحدث والدتي بالهاتف ثم تسألني إلى أين أرغب الذهاب؟، أين أتمنى أن أكون يا
أماه؟ أين؟ أخرجيني من هذا العالم ، ارميني في قبري علّني أجد من يشابه حزنه حزني،
كنت سأقول لها " ودّيني قبري " لكني غطيتها بعبارة " ما أدري كيفج ! " ، ثم تتحدث مرة
أخرى في الهاتف " وين ؟ بيتزا ؟ يمكن ماتبي بيــ ... " قاطعتها صارخة " أنا قلت ما أدري!"
لماذا لا يفهمون ؟ لماذا يختفي صوتي مني؟ لماذا لا ترمي الهاتف من يديها لأقفز عليها و
أحتضنها؟ لماذا لم تشتمني حين صرخت بها؟
اصفعيني ... اشتميني ... اقلبي عالمي فوقي ربما يتغير حالي ...


..

 


"راخيل " هي أنا ... -4-



فقدت صوابي ذاك اليوم .. أقف بعيداً عن المظلات ، أتعمد التبلل بالمطر بينما والدتي
تصرخ بي " تعالي ! " ، أنظر إليها ومابين الوعي واللاوعي أهمس " هل أنا أحلم ؟
.. أنا أموت يا أمي ولا أحد يمد يده لي.. - تعالي؟ - تقولينها لي؟ ، المطر يأخذني ..
انظري روحي تتسرب من بخار فاهي الذي يهرب مني .. "
أعود للسيارة ، أحتضن كوب الشوكولا الساخنة بينما أرتعش بقوة ، كلما دمعت عيني
التفت صوب المارة حتى لا تلمحني والدتي. نقف عند إشارة مرورية حمراء. أجد " راخيل"
هناك تلهو بالباربي خاصتها .. تنظر إليّ ثم تشير بعيداً إلى السماء ، تلك التي تقذف علينا
الندى كاميرة تتناثر الماسات من عباءتها ، مددت بصري . استندت على النافذة و رفعت
رأسي أتأمل مقصد إشارتها و أنا أهمس " يارب ! يارب ! " ، لفت نظري في السيارة المجاورة
لنا ذاك الذي يمد عنقه خارج نافذة سيارته ويرفع رأسه يبحث عن ذاك الذي أتأمله .. نظرت
إليه مرة .. فالتفَتّ إلى " راخيل " وجدتها تغطي بسمتها بكفها الصغير وتضحك، طأطأت
رأسي أبتسم بأسى .

Make a Free Website with Yola.